شتاء (1918) الاسكندرية تغفو على الشاطئ الجنوبي للبحر الابيض المتوسط.. امواج البحر تتلاطم، تغمر الرمال الذهبية.. زخات من المطر.. رعد وبرق يضيء المكان... الليل ارخى سدوله.. لسعات البرد تلفح افراد الحامية البريطانية الذين ينتشرون هنا وهناك عبر شوارع وحانات المدينة.. يترنحون سكارى... جنود مصر المكبلون بإرادة الملكية يرمقون الدخلاء بعين تفتقد الى الرضى..
عاد موظف البريد البسيط حسين عبدالناصر الى منزله اثر يوم شاق.. وسط ترحاب زوجته.. تحاملت على نفسها، اعدت له عشاءه البسيط .. فهي في الايام الاخيرة من باكورة حملها.. استلقى على اريكته المتواضعة وراح يحلم بمولوده المنتظر.. هنيهة داهمت احلامه آهات الولادة.. فالام تنتظر وليدها الذي اوشك ان يبصر النور.. احتار الرجل الصعيدي.. تاه لبرهة قبل أن يهرول خارجا لإحضار قابلة تساعد زوجته على ولادة طفلها..
لم تكن الولادة عسيرة.. فالقادم بشير خير.. انجبت تلك المرأة العربية مولودها «جمال» .. اسمر اللون.. حسن الطلعة.. ساحر العينين.. مرت الايام وكبر معها «جمال» .. لكن فرحته بالطفولة لم تكتمل .. فقد فارقت امه الحانية الدنيا ولما يتجاوز الثامنة من عمره..
وربما كغيره من رموز التاريخ.. كان جمال عبدالناصر كثير التأمل في دنياه.. شغوفا بالمطالعة.. محبا لوطنه.. قلقا لوجود الاجنبي على ارض مصر ..
في السابعة عشرة من عمره، وقد كان طالبا في الثانوية انتظم في مظاهرة حاشدة عبر شوارع القاهرة وهتف ضد الاستعمار وتعرض للضرب المبرح الدامي.. ومنذ ذلك اليوم راح يفكر في طريق الخلاص..
إنحاز جمال عبدالناصر لفقراء بلاده.. بل لفقراء الامة بأسرها، فعبر بذلك عن طموحاتهم واحلامهم في الحرية والاستقلال.. انصف الفلاحين فجعل من مصر واحة للعدل في عصر غابت فيه العدالة... انتصر للوطنيين في مواجهة العملاء .. انتصر للشرفاء في مواجهة اللصوص.. انتصر للوحدة في مواجهة التجزئة وبقدر ما حاز على ثقة عامة الناس، فقد اصطف الاخرون في مواجهة احلامه وطموحاته في تحرير الامة..
هكذا كان جمال .. وهكذا عاش في اذهان الاجيال بأسرها.
يا نصير الفقراء.. سلام عليك يوم ولدت، ويوم تموت ويوم تبعث حّياً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوحدات «الرياضي» العدد «226» التاريخ : 23/1/2001 سامي السيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق