كعادتي منذ سنوات طويلة خلت أعود أدراجي إلى المنزل متأخراً ليلاً .. ألوك شوارع المدينة تارة من هنا وتارة من هناك.. إتسكع.. أبحث عن شئ ما .. يدفعني إلى ذلك الليل والسكون ناهيك عن الفضول والمتعة .. فعمان ليلاً تبدو وادعة جميلة .. وقد تخلصت من كل همومها ومشاغلها ومشاغبها .. تكتسي حلة بهية كإمرأة تستعد لليل طويل عاصف ..
هذه الأيام ثمة تحول ما شديد الغرابة فهذا الصيف يعج بالحركة .. الإنتخابات النيابية حان وقتها والإنتخابات البلدية على الأبواب .. إنتخابات .. إنتخابات تنتظر ساعة الصفر .. ولكل إنتخابات عدتها وعتادها .. فعرائش البطيخ راحت تملأ الشوارع .. الرئيسية والفرعية منها .. كل عريشة منها تحمل سماتها وخصائصها من إضاءات مختلفة وزينة كهربائية وفق مزاج صاحبها وعلى أعلى درجات «الموضة» إضافة إلى البضاعة بحد ذاتها .. أنواع من البطيخ والشمام ..
الجديد في الأمر ان عرائش البطيخ وجدت أخيرا.. صنوها.. يزاحمها على الجمهور والرواد والنظارة .. يتوافدون ليلاً مع برودة النسيم بالعشرات .. يتناولون الشاي والقهوة .. يتسامرون في أمور تافهة وغير نافعة .. يلتهمون الحلوى بين الحين والآخر .. وأحياناً تشق «المناسف» طريقها إلى أمعدتهم لتفعل فعلها وتأثيرها على ضمائر المتناولين لها ..
جزء كبير من هؤلاء الوافدين والرواد إلى العرائش إحترفوا التردد والإنتقال من وإلى العرائش المختلفة بهدف التسامر «وطق الحنك» وتناول ما لذ وطاب من أنواع الحلوى المتنوعة من كنافة ومبرومة وغيرها .. من أفخر المطاعم الشهيرة المنتشرة في عاصمتنا «عمان» .. يبيعون «الوعود» لهذا وذاك .. وينقلون «الأقاويل» والفتن بين أصحاب «العرائش» يشحنون الأجواء إمعاناً في إبتزاز الجميع ودفعهم إلى مزيد من السخاء الحلواني المعلن .. وغير المعلن ..
ولا أدري ان كان من حسن طالعي ام لا ان أتردد على عدد من هذه العرائش .. المنتشرة هنا وهناك .. وعلى أطراف المدينة .. كنت أجالس الناس .. أصغي إليهم .. أبادلهم أطراف الحديث .. أبحث عما يدور في خواطرهم .. لأكتشف ان البعض ممن يجلسون حولي قد تنقلوا بين ثلاث عرائش هذه الليلة .. قبل ان يستقر بهم المقام في العريشة هذه .. أحاديث فارغة .. لا أحد يتحدث عن التغيير المنشود .. ولا عن برامج واقعية جادة .. الكل يدور بالفراغ .. الكل يحلق بالوهم .. لا أحاديث عن جدوى وأهمية الإنتخابات وما قد تحمله من تغيير في رؤيتنا ومسلكنا ..
نمط قديم جديد .. نفاق ما بعده نفاق .. وهم ورياء .. وعود خرقاء غير قابلة للتحقيق .. تسيطر على الأجواء ..
في كل مرة أغادر هذه العرائش .. يداهمني إحساس غريب .. ورغبة جامحة .. لا أعرف لها تفسيراً .. فأجد نفسي مدفوعاً نحو عرائش أخرى .. عرائش البطيخ .. لشراء بطيخة كبيرة .. مكتنزة .. منبلجة .. أختارها بعناية كي «أشقحها» .. وألتهمها .. ولسان حالي يقول .. إن أغلب العرائش المنتشرة في شوارع المدينة هذه الأيام .. «على السكين يا بطيخ» !!...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوحدات «الرياضي» العدد «323» التاريخ : 9/6/2003 سامي السيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق