الجمعة، 29 أكتوبر 2010

الديك البائس ... والجزار

 


ما أن إستقر الحال بالديك إياه .. في قفص بمحل بيع الدجاج الحي والمذبوح حسب الطلب ..
لم ينم ليلته تلك .. الظلام الدامس يُخيم على المكان .. رأسُ صاحبُنا «الديك» يكاد ينفجر من تزاحم الأفكار السوداء في رأسه .. لم يقوَ على الوقوف .. يرتعد من الخوف .. ماذا عساه أن يفعل .. فلا فرصة تلوحُ في الأفُق .. فالقفص مُغلق بإحكام .. آه .. لو إستطاع الفرار من القفص .. لكن .. المحل مُغلق .. لم يتذوق حبة قمح .. أو رشفة ماء في ليلته هذه .. في الصباح إستيقظ باكراً .. وراح يراقب ما يجري في المكان من أحداث .. فالناس تتوافد على ا لمحل رجالاً ونساء .. الكل يطلب ما يريد .. فهذا يريد ديكاً مذبوحاً ومنتوفاً فقط .. لحشوه بالرز واللحم والصنوبر .. ليقدمه وليمة دسمة لحفنة من أصدقائه .. وهذه السيدة المكتنزة .. تريد ديكاً مقطع الأوصال لإعداد طبق من المقلوبة لزوجها الكادح وأطفالها .. وأخرى تريده مقطعاً ليناسب «سدر» المسخّن الشهي المعد بالبصل والتوابل لأقاربها القادمين من بعيد لزيارتها بعد طول غياب ..
راح المسكين يسمع ويشاهد وهو يئن تحت هول الرُعب الساكن في قلبه .. عملية حزّ السكاكين تسير برتابة مع ما يرافقها من عمليات الذبح المستمرة .. أصوات ماكنة النتف تُصيبه بالقشعريرة وهي تلوك ريش الذبيحة وتنزعه عنوة .. فأُصيب باليأس والإنهيار.
مضى يوم كامل وهو يراقب ما يجري أمام عينيه .. لم يذق فيه أي حبة من الطعام المُلقى أمامه بسخاء .. فالجزار يريده صحيحاً .. سليماً .. سميناً .. وبصحة جيدة .. ويريده أيضاً .. أحمر الوجه يافعاً .. لتسويقه لزبون خاص يعرفه تمام المعرفة .. هذا الزبون .. يشتهي ويتذوق هذا النوع من الديوك المنبوذة .. التي لم ترَ يوماً جميلاً في حياتها البائسة .. فحياة هؤلاء قاسية .. صعبة .. مثقلة بالديون .. ولا أحد يرغب في صُحبتها أو مرافقتها أو إقامة أي علاقة معها .. فهي مُكلفة .. ثقيلة .. فلا يقوى على تحملها أحد .. من أجل ديك يائس ناكرٍ للجميل .. فهذا الديك يتنكر لكل شيء وينسى كُل ما يأخذه اليوم من صدقات في صبيحة اليوم التالي.
ثمّة قلّة قليلة ترغب في إصطياد تلك النوعية من الديوك لتوظيفها في عمل ما أو وليمة ما .. تكون ضحيتها الأولى والأخيرة تلك الديوك اليائسة.
الديك مُصاب بالخوف والإضطراب .. فراح يجوب القفص في حركة مجنونة بكل الإتجاهات .. مما دفع الجزار للقيام بحركة هادفة لتهدئة وتطمين الديك إياه .. على أمنه وسلامته .. فصار لا يغلق عليه باب القفص أحياناً .. ولا ينسى أن يداعبه كلما تسنت له الفرصة لرفع معنوياته ..وكان يقدم له أحياناً القليل من حبات البندورة التالفة تكون قد سقطت من زبون جاء على التو من سوق الخضاء أو بقايا تفاحة تركها غلام كان قد جاء مع أُمه للشراء .. بل وأكثر من ذلك .. وعده أن يرافقه في زيارة خاصة لمعرض الديوك عندما يتم إفتتاحه قريباً .. لمشاهدة منازلات الديوك المثيرة بينها من كل الأنواع والأجناس.
إطمأن الديك قليلاً .. وراح يأكل بنهم كالثور .. ولسان حاله يقول «إذا لم تتسنَ لي فرصة الخلاص والحياة .. فعلى الأقل علي أن أستفيد من الأكل الوافر المُلقى أمامي الآن .. بعدها يخلق الله ما لا تعلمون».
راح الجزار ينظر إليه بخبث .. ويقول في نفسه .. «إلتهم ما تريد .. فإن سعرك سيزيد .. لأني أود أن أبيعك لمن أُريد».
إقتاد الجزار الديك قبيل إفتتاح البازار (المؤتمر) بقليل .. عند الإفتتاح الديوك من كل الألوان والأنواع والأجناس .. تتمختر في باحات المعرض .. شابة .. يافعة .. قوية .. جميلة.
لم يتقدم أحد لشراء الديك الهَرِم بوجهه الشاحب.
قبل إغلاق البازار بقليل .. بيعَ الديك المنبوذ بالجملة طعاماً للكلاب.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوحدات «الرياضي»      العدد «669»     التاريخ : 20/4/2010     سامي السيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق