كان اول عهدي بالتعرف على المجانين .. في هذه الدنيا في أواخر الستينات .. من القرن الماضي .. كنت شاباً يافعاً .. مفعم بالحيوية والنشاط.. أبحث بشغف عن العدالة .. حينها كانت تسود العالم مفاهيم .. رائدة .. ثورية .. يسارية .. تدعو إلى الحرية .. والإنعتاق ..
وقتذاك .. وقع بين يدي كتاب .. لمؤلفه اليساري (جان بول أوليفيه) .. «متى يطلع الفجر يا رفيق ..» حيث يرصد كتابه هذا .. الإرهاصات التي سبقت قيام ثورة البلاشفة في روسيا بربع قرن .. ثم يتابع وقائع إندلاع الثورة التي غيرت وجه التاريخ ..
في الكتاب إياه .. تعرفت إلى شخصية محورية .. ألا وهي «إلكسندر أوليانوف» .. ذلك الطالب المتمرد بجامعة موسكو .. الذي لعب دوراً محورياً في حياة الحركة الطلابية الروسية .. التي إضطلعت بدور بالغ الأهمية في حياة الشعب الروسي .. هذا الطالب لم ترق له الحالة التي تدار فيها شؤون بلاده .. سياسياً .. وإقتصادياً .. وإجتماعياً .. وحتى عسكرياً .. حيث كانت روسيا تتعرض بين الفينة والأخرى .. إلى غزو خارجي .. ينال من هيبتها .. وسيادتها .. والشعب يقتله البرد والتخلف والهوان والجيش مهزوم امام الألمان .. والحفلات الماجنة تقيمها الإمبراطورة كل مساء وراسبوتين.. يتلاعب بالأمراء .. والأميرات على حد سواء .. فأراد هذا «المجنون» .. ان يقلب الأوضاع .. رأساً على عقب .. فنصب كميناً مع عدد من أصدقائه .. لموكب القيصر الذي كان يشق طريقه .. في أحد شوارع موسكو المترفة .. فأمطره بوابل من الرصاص .. والقنابل .. أعتقل ألكسندر .. ثم أعدم .. ومنذ ذلك التاريخ .. وانا أسمع عن مجانين آخرين .. على مساحة هذه الأرض المترامية الأطراف.
سليمان خاطر .. «مجنون» آخر في الجيش المصري .. كان يقوم بواجبه على حدود بلاده في سيناء .. لم يعجبه الحال .. ولا الأحوال .. لا العنجهية .. ولا الغطرسة .. التي يمارسها العدو امام ناظريه .. فإستل بندقيته بعزة .. وكبرياء .. وأمطر الحافلة بالرصاص فقتل من قتل .. وجرح من جرح .. الناطق الرسمي يعلن ان مجنونا فعل ما فعل..
اما أحمد .. ويا عيني على أحمد .. مقاتل عربي آخر .. في بقعة عربية أخرى .. يحب الله .. ورسوله .. والمؤمنين .. ويحب الوطن والأمة .. إستفزته مذابح بحق أخوته هناك .. تجري امام ناظريه .. وحين رأى الغطرسة إياها .. والعهر إياه .. «أمامه» إمتشق معشوقته فقتل من قتل .. وجرح من جرح .. الناطق الرسمي يعلن كالعادة ان «مجنونا» فعل ما فعل !!.
اما كبير المجانين .. والذي علمهم السحر «محمد عطا» (المهندس الذي أعد رسالة الدكتوراة في ألمانيا) .. المتفوق في دراسته .. المتفوق في سلوكه .. وأخلاقياته .. هاله ما رأى من حال الأمة التي ينتمي إليها .. وأفزعته حالة الغطرسة التي ما إنفكت تمارسها روما الجديدة .. روما العنجهية .. والإستبداد .. والطغيان .. فأعد لأكبر عملية ينفذها فرد في التاريخ .. فقتل من قتل .. ودمر ما دمر .. وشتت ما شتت .. أعلن رسمياً بأن مجنوناً آخر إنضم إلى القافلة.
مجانين هنا .. مجانين هناك .. صنعهم الظلم .. والبؤس .. والإستكبار .. والإستبداد ..
مجانين كثر على الطريق .. ما لم يتوقف هذا العالم عن الجنون ..
وثمة من يقول .. لا يفهم لغة المجانين إلا مجنون مثله ؟!!..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوحدات «الرياضي» العدد «299» التاريخ : 17/12/2002 سامي السيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق