جائني صديق عزيز يدعوني لتحديد موعد لوليمة يرغب في إقامتها في منزله تكريماً لي ولصديق آخر محب «للطبيخ» .. كان قد ألح عليه بضرورة دعوته لوليمة تزخر مما هب وطاب من «الكرشات والروس»!! .. أجبته : من قال لك أنني من جماعة «الطبايخ» .. أنا لا أحب «الطبايخ» ولا ثقافة «الطبايخ» وغير معني بالنتائج والإتفاقيات التي تتمخض عنها تلك الطقوس .. تلك النتائج التي سرعان ما تنتهي مع آخر لقمة يبتلعها المدعوون ..
قال : «معلش عشان خاطري» .. فالرجل حبيبنا .. وهو الذي طلب بلسانه هذه الوليمة!! .. فصاحبنا يموت في «الكرشات» .. وفي مضغ «الكرشات» .. وفي مط «الكرشات» .. ولديه الإستعداد للذهاب إلى آخر الدنيا إذا كان الطعام من هذا الطراز!!..
قلت لنفسي : لاحول ولا قوة إلا بالله .. إنصعت لمطلبه .. فلم تكن لدي رغبة بقطع نصيب عاشق «الكرشات» .. وافقت ضمنياً على الحضور .. في الموعد المحدد ..
ولأن «الطبايخ» وطقوسها لا تجد مستقراً في ذاكرتي .. فهي ليست إجتماعاً حزبياً .. ولا أمسية شعرية .. ولا حتى فيلماً سينمائياً حاز على جائزة رفيعة .. ليدفعني إلى ذلك الموعد دفعاً .. لهذا نسيت .. وإرتبط بمواعيد أخرى أكثر أهمية في هذا الوقت بالذات ..
جائني إتصال يذكرني بذلك .. وتلاه آخر .. داهمني تكاسل وفتور .. وعدم رغبة بالذهاب .. فالواقع حزين ومدمر .. قوات «المارينز» توزع هداياها على الأطفال والنساء .. في كل مكان على هذه الأرض .. بغداد .. البصرة .. النجف .. كربلاء .. العراق كله يحترق .. ونحن نلوك «الكرشات» ..
تحت ضغط الإلحاح بأن «الكرشات» قد أصبحت جاهزة .. وما علينا سوى المبادرة إلى مطّها .. وإلتهامها .. وقعت في حيص بيص .. ولم أجد مناصاً سوى الإنصياع ..
ورحت أكيل لصاحبي ولصاحب صاحبي .. ذلك النّهم .. صاحب البطن الأجرب سيلاً من الشتائم .. هل هذا وقت «الطبايخ»؟ في الوقت الذي يموت الناس فيه بالآلاف .. قلت في نفسي متسائلاً .. أيُ نوع من البشر هؤلاء ؟ ..
ومع ذلك .. خضعت لرغبة صاحبنا ذو الجوع المزمن وإصطحبت صديقين .. وذهبنا إلى المكان المحدد .. حيث «الطناجر» ممتلئة عن بكرة أبيها .. بالرؤوس و«الكرشات» تفوح منها رائحة زكية يسيل لها اللعاب ..
جلسنا حول المائدة .. نتحادث .. ننتظر تقديم الطعام .. لحظتها رحت أفكر في تلك الظاهرة تفكيراً عميقاً وقلت لنفسي : لماذا ألوم الرجل وصاحبه .. فالبلد كلها مركبة على ثقافة «الطناجر» .. ورحت أسترجع مشاهد طويلة لحكايا كثيرين .. لا يملكون مزايا من الثقافة .. او الإبداع .. او التميز .. لكنهم يحققون نجاحات قل نظيرها لأنهم لايحسنون .. إلا .. إستخدام ثقافة «الطناجر» .. إذ كلما رأوا مكاناً شاغراً أو فرصة سانحة يقومون وعلى وجه السرعة .. بتحضير الولائم .. يدعوون إليها من يشاؤون من علية القوم الذين يحسنون المضغ .. واللدغ .. بغية تسويق أنفسهم .. إذ ليس بوسع هؤلاء أن يقدموا شهاداتهم .. أو مؤلفاتهم .. أو إنتاجهم الفكري والسياسي والكفاحي .. إنهم فقط يتقنون تنظيم حركة الصحون .. والملاعق .. وسواها .. إنهم مثقفو «الطناجر» .. الأمة تذبح من الوريد إلى الوريد .. ولا صوت يعلو فوق صوت «الطناجر» ..
لاريب أنها مرحلة «الطناجر» .. ولا مكان فيها لغير «الطناجر» ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوحدات «الرياضي» العدد «314» التاريخ : 8/4/2003 سامي السيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق