الخميس، 14 أكتوبر 2010

الزنزانة


اقترب الليل، اجلس بمفردي في الزنزانة .. أتأمل .. الشتاء يقترب بسرعة.. البرد شديد.. الهدوء سيد الموقف.. الصمت مطبق.. إلا من بقايا حركة.. تتنازعني افكار كثيرة متناثرة.
أعود إلى الوراء.. المعهد.. الطلاب.. التخرج.. المقاومة.. الرجال.. البنادق.. الاصدقاء.. (اديب.. ماذا حلّ به؟).. أمي اه ياامي.. اتوقف برهة.. اسمع صوتاً قادما.. حركة الارجل تتسارع.. وتقترب .. «قرقعة » المفتاح.. يفُتح الباب.. يطلّ العسكري.. هات أغراضك بسرعة.. أهم لألبس حذائي.. لا .. لا تعال بسرعة.
احمل كيساً صغيراً من «البلاستيك» فيه كل ما لدي هنا، أهبُّ واقفا.. العتمة تخيم نهرول إلى اسفل.. نخرج من باب صغير حديدي.. لقد تعودت على ذلك.. يا تُرى إلى اين  ياخذني.هذا.!؟  نمشي هنيهة ثم نهرول ثانية.. إلى اسفل، بهو واسع.. عدد من الزنازين. نادى العسكري على زميله: خذه الى «61»...
آه الان.. علمت أنني ذاهب الى زنزانة اخرى.. لا بأس من التغير.. ربما هناك جديد.. يفتح  العسكري الباب.. يدفعني برفق: أدخل .. لحظات.. صمت قاتل.. ألقيت التحية بايماءة من رأسي للجالس في الزنزانة.. اخذت مكاني قبالته، على فرشة مع بقايا بطانيات.. شاب اسمر، ضعيف البنية.. ردد العسكري اوامره :  ممنوع الحكي .. بدون صوت.. الخ.
وذهب ليتابع نوبة الحراسة.. افكار تتزاحم في ذهني.. من هو هذا الجالس؟ .. هل جاء حديثا.. هل يعرف ما يدور في الخارج.. منذ ثلاثة اشهر وأنا لا اعرف ما يدور في هذا العالم!!
أتساءل؟ ماذا يعرف هذا القابع معي في الزنزانة.. بادلته التحية من جديد..
عرفته بنفسي : سامي ... من الجبهة ..، معتقل منذ .. من مخيم الوحدات انفرجت أساريره وتكلم.
أنا ابو كفاح.. من البقعة.. اعتقلت في الاحراش.. كنت مقاتل.. ارسلت الى الجفر واحضروني منذ اسبوع.. ربما للافراج عني؟؟!
سألت: ما هي الاخبار؟ ماذا يدور هناك؟ هل انعقد مؤتمر القمة؟ قال : لا لا هناك مؤتمر لوزراء الدفاع العرب في القاهرة قريبا.
لا اخبار كثيرة لدينا.. هناك ..في الجفر .. تحدثنا طوال الليل في كل شيء.. عن الجفر .. البقعة ..الاحراش..التنظيم السري.. لماذا انا هنا.. الساعة متأخرة من الل يل .. الحديث خافت.. داهمنا التعب.. حاول كل منا ان ينام..
في الصباح نهضنا.. حركة غير عادية.. محاولات حثيثة منا لكي نعرف من يشاركنا الزنازين الاخرى.. ذهبنا الى الحمامات.. نبحث عن اخبار يتركها الرفاق عادة.. لا جديد . فجأة الباب يفتح : سامي تعال بسرعة.. هرولت .. صعدت الدرج.. الساحة اياها.. اربعة رجال بملابس مدنية.. ملامح الغضب بادية على وجوههم.. عصا(خيزارانه) في يد كل منهم.. إنهالوا عليّ ضربا.. كانت مفاجأة .. لقد اجتزت التحقيق منذ زمن.. لماذا يحدث هذااليوم؟ .. هل وجدوا شيئا جديدا. هل اعتقلواحد ..هل اعترف احد.. الضرب يزداد.. يزداد.. في كل الاماكن.. الدم يسيل من انفي ومن اصابعي.. اسئلة كثيرة تطرح لا ينتظرون اجابات عليها.. مجرد عبث..وتعذيب..
بعد اقل من ساعة قادني عسكري صغير السن.. كان يركلني ويصفعني على امتداد الطريق الى الزنزانة.
قال: خذه الى «61» .. عبرت الزنزانة.. أتألم.. رغبة شديدة بالبكاء..
قلت في نفسي.. لم افعل شيئا.. سوى انني احب فلسطين..ادفع  عنهم الهزيمه.. بكيت بصمت وانا اردد ابيات سميح القاسم:
ربما افقد ما شئت معاشي
ربما اعرض للبيع ثيابي وفراشي       
ربما اعمل عتالا وكناس شوارع
لكن يا عدو الشمس لن اساوم
والى اخر نبض في عروقي سأقاوم
لحظات قصيرة.. عسكري اخر. قال بنبرة عالية.. هات اغراضك كلها وتعال .. حشرنا في اسفل بيت الدرج.. عدد من المعتقلين.. يجلسون القرفصاء .. سألت : ماذا يجري ؟ قال احدهم : هامسا لقد قتل .. اغتيل هذا اليوم صباحا .. تنفست الصعداء.. ادركت اذن لماذاحدث لي اليوم ما حدث، لم اعد احس ما يدور حولي غادرنا المكان
حشرنا في سيارة اخذت طريقها وسط الزحام وبدأت تتلاشى رويداً رويداً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوحدات «الرياضي»      العدد «219»     التاريخ : 28/11/2000     سامي السيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق