شتاء عام 1963 كنت لم ازل طالبا في المرحلة الاعدادية... اتهيأ للتقدم لاختبار ما.... كان يوما شديد البرودة... أوائل شهر شباط.. الحياة في المخيم بسيطة... لكنها قاسية... ظروف الناس واحوال معيشتهم صعبة للغاية.. لا كهرباء... لا ماء منتظم... وسائل التدفئة تكاد تكون معدومة... اجلس بمفردي في زاوية الغرفة... اسعى لدفء افتقده.. اتدثر ببطانية... اقلب كتابي... احاول تجميع افكاري... دون جدوى... الوالد يقلب محطات المذياع... يجد ضالته... يستقر على محطة ''صوت العرب''... صوت احمد سعيد يجلجل يعلن ان نظام عبد الكريم قاسم قد هوى... سقط الى غير رجعة... ابواي ناصريان بطبعهما.... يعشقان جمال عبد الناصر... يهيمان بالوحدة العربية... انها وفق ظنهم تحرر ارضهم... تعيدهم الى الوطن.. الى فلسطين..
بالنسبة لي.. كان الحدث عاديا... في الصباح حملت كتبي دون حقيبة... رحت اتمشى بتثاقل صوب المدرسة... فالاختبار في الحصة الاولى... دخلنا غرفة الصف... ثمة حالة من القلق ، الكآبة تسيطر علي... لم اكن مستعدا للاختبار..
فجأة... دخل المعلم... كان على غير عادته.. بدت على ملامحه سعادة غامرة... طلب منا لملمة كل شيء امامنا والاصغاء جيدا... قال : هل انتم مستعدون للاختبار.... اجابت غالبية الطلاب : نعم... ابتسم وقال : لقد تأجل الاختبار اليوم... لدي ما هو اهم... وراح يتحدث معنا بلهجة خطابية : لقد سقط الطاغية... ثم اخذ يتحدث عن العرب والعروبة والعراق وعبد الناصر وتحرير فلسطين...
ومنذ ذلك اليوم والعراق يعشعش في اعماقي... يسكن في وجداني... فقد اصبحت اعشق هذا البلد العربي الشجاع...
اواخر ايار عام 1967 القوات العراقية تسابق الزمن وتجتاز الصحراء في طريقها الى فلسطين... لم تتمكن من تثبيت قواعدها كما ينبغي... ومع ذلك قاتلت كما الرجال... وروى افرادها بدمهم الطاهرثرى الاردن... في سيناء كانوا هناك ايضا يقاتلون بشراسة الى جانب اخوانهم المصريين... سقط منهم عشرات الشهداء ومئات الجرحى.
وما ان وضعت حرب حزيران اوزارها... حتى ازداد عدد الجيش العراقي واخذ ينتشر في الاردن والجولان ينتظر اليوم الموعود... يوم الثأر...
شبان عراقيون : سنة وشيعة... عرب و اكراد... ومن كل الاطياف.. مثقفون.. يساريون.... قوميون مقاتلون ...ينخرطون بزخم في صفوف فصائل حركة المقاومة الفلسطينية...
خريف 1973 الجيش العراقي يتوق للمشاركة في حرب تشرين المجيدة... وفي لحظة وصوله الى ارض المعركة فتح النار من كل صوب نحو العدو يثأر لهزيمة الامة في حزيران... ويثأر لنفسه اذ لم يمنح فرصة حقيقية لمنازلة العدو بفاعلية واقتدار في حرب حزيران...
تبدلت الايام و تراجعت معايير كثيرة... واصبح العراق مطمعا لكل زناة الارض... يسعون للثأر منه... يدمرون قدراته... يشلون ارادته... يحاصرون اطفاله و نسائه وشيوخه... يجْوعون علمائه ومثقفيه.... هذا قدر العراق... وهذا قدر الامة... العراق يضرب بوحشية تماما كما ضرب محمد علي باشا وجمال عبد الناصر في مصر.... العراق يظل شامخا... العراق يمتلك ناصية المستقبل....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوحدات «الرياضي» العدد «240» التاريخ : 5/8/2001 سامي السيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق