أُغادر منزلي في طريقي لقضاء أعمالي .. قبل وصولي الى السيارة .. تعترضني جمهرة من الفتية يُلحون عليَّ بالسؤال .. مَن مرشحك المفضل ؟ .. مَن تُريد أن تنتخب ؟ .. مَن هو مرشحك المفضل في هذه الدائرة وتلك ؟ .. أُجيب على تساؤل هؤلاء الفتيان الطيّبين القادمين الى الحياة ، يعاجلونني بسؤال غريب .. واستثنائي .. لماذا هذا ؟ .. فلان ! .. يدفع أكثر .. وعلان ! .. يدفع أيضاً أكثر وأكثر .. أُصاب بغصّة .. «أُهمهم » بكلامٍ غير مفهوم .. وأتوقف أمام جمهرة من الشبيبة .. أمام سوبر ماركت بعيّنه .. حيث صور المرشحين .. ومن دوائر مختلفة .. تملأ واجهات ثلاجات العرض .. أُحييهم وأسألهم عن الانتخابات وشجونها .. يضحكون .. يقهقهون .. يسخرون .. يقولون بصوت عالٍ يا أستاذ «مهيّة معروفة مبيوعة .. والحكومة اللي بدْها إياه بتنجّحه» ونحن سوف ننتخب من يدفع لنا أكثر ..
أُلملِمُ أحوالي وأُغادر منكسراً من هذا الواقع .. أسأل نفسي ما الذي يجري ؟ .. ماذا حدث للناس ؟ .. ولماذا عمّ الخراب ؟ .. لقد وصل الخراب حداً مقلقاً .. فهؤلاء الفتية تجاوزوا السن القانوني .. أو يكادوا.. ومع ذلك .. هذا هو منطقهم .. وهذا هو إحساسهم .. وهذه هي أحوالهم .. ونظرتهم للدنيا .. ولمجلس النواب .. والحكومة وأفعالها ..
من عادتي اليومية أن أتجول في عددٍ من مقرات المرشحين ومهرجاناتهم «خيام المتعة» .. أستمع إليهم .. كما أستمع للحضور .. وطوال ثلاثة أسابيع .. لم أسمع شيئاً «يسُر البال» وذو قيمة .. إلا القليل القليل .. أمس جاءني صديق عزيز وألح عليَّ بضرورة أن أحضر المهرجان الخطابي .. الذي يُقيمه قريباً له .. وكان قد دعاني أيضاً الصديق عدنان الأسمر .. لحضور مهرجانه الختامي .. في نفس اليوم ونفس الساعة .. فعدنان أعرفه منذ زمن .. وأتكهن بما سوف يقول .. لذا قررت حضور المهرجان الآخر .. رحبوا بي كثيراً .. وأصروا على جلوسي في الصفوف الأولى .. إستمعتُ الى عريف المهرجان .. كان خطيباً متمكناً .. لكنه لم يقدم شيئاً يستحق الذكر .. فخطابه مستهلك .. ومن العصر الخشبي .. وأجمل ما قيل في المهرجان عدة أبيات من قصيدة للشاعر الفلسطيني «هارون هاشم رشيد» :
أنا لن أعيش مشردا .. أنا لن أظل مقيدا .. أنا لي غدٌ .. وغداً سأزحفُ ثائراً متمردا .. أنا ثورةٌ كبرى تُزمجر .. بالعواصف والردى .. صرخات شعبي لن تضيع .. ولن تذوبَ مع الصدى .. أنا عائدٌ داري هناك .. وكرامتي والمُنتدى.
هذا الإنشاد .. حال الناس قديماً .. في الزمن الجميل .. كانوا فقراء .. الشوارع موحلة .. والبيوت ضيقة .. تكاد تختنق من كثرة ساكنيها .. لا ماء فيها ولا كهرباء .. ولا إنترنت .. ولا «فيس بوك» .. ولا محطات فضائية تُسهم بشكل كبير في الخراب .. لكنهم كانوا شُرفاء .. يحلُمون بالحرية .. والوحدة .. والتحرير .. وبمستقبل أفضل.
في مثل هذه الأيام من عام 1989 جرت انتخابات نيابية بعد غياب طويل بسبب الظروف السياسية المضطربة ، والأحكام العُرفية المسلطة على رقاب العباد .. الانفراج السياسي جاء بعد طول عناء .. المرشحون في تلك المرحلة أغلبهم كانوا مناضلين .. سياسيين .. مهتمين بالشأن العام .. صحفيين حقيقيين .. حزبيّين .. شيوعيين .. وإخوان مسلمين .. كُنّا شلّة من الشُبان اليساريين .. مأمون .. عبد الناصر .. حسان .. قنديل .. وغيرهم نلاحق المرشحين .. نجادلهم .. ننغص عليهم جلساتهم .. ننبش تاريخهم صفحة صفحة .. وسطراً سطراً .. ونختلف معهم و«نغلّبهم» .. وبالمقارنة بما يجري الآن .. كانوا يستحقون الإحترام .. لأن لديهم تاريخ طويل في النضال ، والعمل من أجل الأردن .. وفلسطين .. والعروبة .. ومن أجل عالم أكثر أمناً .. وأكثر عدالة .. عالم يعمه الحقّ والسلام .. كان لهم نكهة ومذاق خاص .. نتباين مع الكثيرين منهم .. ولكنهم بحق كان لهم لون .. طعم .. رائحة .. أما اليوم نتجول .. نتسكع .. نَدور بين خيام المرشحين .. لتناول الحلوى الساخنة .. حسب الطلب .. نسمع عن التنمية السياسية منذ عقود .. والقائمون على التنمية السياسية هم الذين يئدون التنمية السياسية .. لا أحد يُريد بحقّ تنمية سياسية .. ولا أحزاباً وطنية وقومية وإسلامية وأُممية على الإطلاق .. فالأحزاب : يجب أن تحمل أماني وأحلام الناس من حرية .. وعدالة .. ووحدة .. وإنعتاق .. ونحو آفاق تطول عنان السماء .. لا أحزاب : أحلامها وآفاقها لا تتجاوز بساطير القائمين عليها.
مَن المسؤول عن تردّي الثقافة والمفاهيم حول السياسة والأحزاب والمشاركة السياسية ؟ .. ومَن المسؤول عن هذه الانتخابات السيئة السُمعة ؟ .. بالتأكيد التاريخ الطويل .. من القمع والتزوير والتزيّيف والتسويف .. ولا يمكن للحرس القديم وقوى الردّة أن يُنجزوا واقع جديد مليء بالأمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوحدات «الرياضي» العدد «697» التاريخ : 8/11/2010 سامي السيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق