وقعت هزيمة الخامس من حزيران على رؤوسنا كالصاعقة .. حينها انغمستُ في العمل العام .. رُحت اتابع تاريخ وأخبار الثورات التي حدثت في القرنين الأخيرين .. قرأت وتابعت وسمعت عن كيمونة باريس .. وعن انتفاضات الثورة في روسيا المتتابعة مطلع القرن العشرين ، التي حققت انتصارها العظيم عام 1917 .. وعن الثورة الصينية وإرهاصاتها وزعيمها «صن يات صن» مروراً بـِ «كاي كان تشيك» وانتصارها النهائي بقيادة رجلها العظيم«ماوتسي تونج» ، التي حوّلت الشعب الصيني من ملايين (الحشاشين والبغاة) الى أعظم كيان سياسي على وجه الأرض.
قتلة كُثر في حياة الشعوب .. فرانكوديكتاتور اسبانيا .. بينوشيه طاغية التشيلي .. بن علي .. مبارك .. كل هؤلاء ذهبوا الى مزبلة التاريخ بفعل نضالات وتضحيات الشعوب وثوراتها بأشكالها المختلفة .. لم أقرأ ولم أسمع ولم أشاهد ما هوأجمل من انتفاضة وثورة شعب مصر (ثورة 25 يناير) .. صحيح أن الانطلاقة الأولى كانت للشباب الذين تحملوا العبء الرئيسي في المواجهات ضد جهاز دركي أُعد ودُرب وسُلح لهذه الغاية .. (أكثر من مليون دركي) جُهزوا لهذا اليوم بالذات .. لكن سرعان ما انهار .. لم يفلح في مواجهة (الورد المفتّح في جناين مصر) .. نسي الديكتاتور أن«الدرك» رغم امتيازاتهم الكثيرة والتبعية العمياء والرشاوى والإفساد .. هم بالضرورة أبناءً للشعب المصري وأخوة وأقرباء للثوار المنتفضين .. لهذا لم يفلحوا في المواجهة .. مواجهة الأخ لأخيه .. الباحث له عن الشرف والحرية والكرامة.
ما حدث في ميدان التحرير بالقاهرة طوال فترة الانتفاضة .. يحتاج الى الآلاف من الروايات والقصائد واللوحات الفنية والمقطوعات الموسيقية .. لتتحدث وتصف حالة الانسجام والإبداع التي تألقت في ذلك الميدان .. فطوال ثلاثة أسابيع كان يتواجد في ذلك الميدان والشوارع المحيطة به أكثر من مليون شخص .. كيف تسنّى لهؤلاء الناس أن يبقوا ويأكلوا ويناموا دون أية حوادثٍ تُذكر !! .. الكل هناك كان يخدم الأخر .. اليساري واليميني .. السلفي والقبطي .. نسوا الأيدلوجيات والأديان وتعاملوا مع بعضهم البعض كمصريين فقط .. يحلمون بالحرية والعدل والمساواة .. بعيداً عن التعصب الذي زرعه النظام الديكتاتوري كي يتسنى له تفتيت هذا الشعب لإحكام قبضته عليه.
مئات الأطباء والممرضين والممرضات تركوا عياداتهم ووظائفهم وانضموا الى المنتفضين في الميدان .. يقدمون الإسعاف والدواء والماء .. صحفيون , طلبة , اساتذة جامعات .. كل هؤلاء أصبحت وجهتهم ميدان التحرير .. فالأستاذ ذهب لحماية طلابه والوقوف معهم .. والصحفيون انحازوا لشعبهم ولانتفاضتهم لأنها انتفاضة حق وعدل .. تكلمت عنهم حين كانوا لا يقوون على الكلام رغم أن مهنتهم «الكلام» .. الآلاف المؤلفة من الفتيات والنساء .. «منقبات» أو متبرجات .. لم تتعرض واحدة منهن للتحرش .. مع أن النساء في شوارع القاهرة كانت تعاني الأمرين من التحرش والاعتداء (عينك عينك) .. بضربة واحدة انصرف اهتمام المصريين عن القضايا الصغيرة والتافهة نحوالمسائل الكبرى .. قضية الحرية والعدل والمساواة والانعتاق .. قضية ان يعود لمصر دورها الاجتماعي والوطني في محيطها العربي والعالمي.
لحظة سقوط الفرعون كنتُ اتابع بيان الجيش .. لم أقوَ على الابتعاد عن شاشة التلفاز لكي أسمع بيان الجيش (البيان رقم 3) والذي أكد رحيل الفرعون مبارك .. لحظتها انتفضت الجماهير في القاهرة في ميدان التحرير وفي كل المدن المصرية ، التي خرجت عن بكرة أبيها لتقول له (ارحل ارحل مش عاوزينك) .. عمّ الفرح كل مكان من العالم العربي .. غادرتُ باتجاه السفارة المصرية .. لم استطع ان اتجاوز « الدوار الخامس» .. ركنت السيارة جانباً واتجهت نحوالسفارة مشياً على الاقدام .. الألوف من الناس هناك .. يهتفون فرحين بسقوط الطاغية .. فهل يعرف ويدرك الحكام العرب ما تكُنّه لهم شعوبهم من محبة ؟؟
أمس استمعتُ الى المناضل والكاتب عبد الحليم قنديل في لقاء على قناة (دريم) ببرنامج «عصير الكُتب» .. تحدث عن معاناته مع هذا النظام المجرم منذ عام «2000» .. عن قمعه واضطهاده وتجويعه .. لكن أكثر ما أغاظني هوتأكيده لحادثة معروفة .. حادثة خطفه والذهاب به الى الطريق الصحراوي وضربه وإهانته ونزْع ملابسه بالكامل .. وإلقاءه بالشارع عارياً .. مؤكدين له (علشان تتعلم تتكلم عن الناس الكبار) .. استضاف البرنامج أيضاً أحد رموز الثورة (نوارة .. ابنة الشاعر احمد فؤاد نجم) .. تذكرتُ صراخها على الشاشة لحظة سقوط النظام .. وهي تقول (مفيش خوف تاني .. مفيش ظلم تاني .. مفيش ذُل تاني .. مفيش كسرة نفس تاني .. مصر حُرة النهاردة).
• انذار .. حتماً ستندلع الثورة في الأرجاء .. سيقف المنافقون والفاسدون وأزلام الطغاة .. عملاء ومخبرين .. أمامنا عراة .. حينها لن ينفع الندم .. سنتذكر أفعالهم وأقوالهم ولن نغفر لهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوحدات «الرياضي» العدد «710» التاريخ : 14/2/2011 سامي السيد
(نوارة .. ابنة الشاعر احمد فؤاد نجم) .. تقول (مفيش خوف تاني .. مفيش ظلم تاني .. مفيش ذُل تاني .. مفيش كسرة نفس تاني .. مصر حُرة النهاردة).
ردحذفتحية الى نوارة فؤاد نجم
تحيا إلى أبناء مصر